فصل: فصل فلاحو أهل الذمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الشافعي يخير البالغين والمفيق بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه فإن اختار الذمة عقدت له وإن اختار اللحاق بمأمنه أجيب إليه.
وقال القاضي في الأحكام السلطانية وقول الجمهور أصح وأولى فإنه لم يأت عن النبي ولا عن أحد خلفائه تجديد العقد لهؤلاء ولا يعرف أنه عمل به في وقت من الأوقات ولا يهمل الأئمة مثل هذا الأمر لو كان مشروعا.
ولأنهم دخلوا في العقد تبعا مع أوليائهم كما كانوا يدخلون في عقد الهدنة تبعا ولأنه عقد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه لهؤلاء كعقد المؤمنين وكيف يجوز إلحاقه بمأمنه وتسليطه على محاربتنا بماله ونفسه وأي مصلحة للإسلام في هذا وأي سنة جاءت به وأي إمام عمل به.
وإذا كان البلوغ والإفاقة في أول حول قومه أخذت منه الجزية في آخره معهم وإن كان في أثنائه أخذ منه في آخره بقسطه ولم يترك حتى يتم حوله لئلا يحتاج إلى إفراده لحول وضبط حول كل واحد منهم وذلك يفضي إلى أن يصير لكل واحد حول مفرد.
وقال أصحاب مالك وإذا بلغ الصبي أخذت منه عند بلوغه ولم ينتظر مرور الحول بعد بلوغه.
ووجه هذا أن بلوغه بمنزلة حصول العقد مع قومه.
وإذا صولحوا أخذت منهم الجزية في الحال ثم تؤخذ منهم بعد ذلك لكل عام كما فعل معاذ بأهل اليمن فإن النبي أمره حين بعثه إليهم أن يأخذ من كل حالم دينارا ثم استمر ذلك مؤجلا وهكذا فعل لما صالح أكيدر دومة وهكذا فعل خلفاؤه من بعده كانوا يأخذون الجزية من الكفار حين الصلح ثم يؤجلونها كل عام وهذا الذي أوجب لأبي حنيفة أن قال تجب بأول الحول.

.فصل: [في جزية من كان يجن ويفيق]:

ومن كان يجن ويفيق فله ثلاثة أحوال:
أحدها أن يكون جنونه غير مضبوط فهذا يعتبر أغلب أحواله فيجعل من أهله.
الثاني أن يكون ذلك مضبوطا كيوم ويوم وشهر وشهر ونحوه ففيه وجهان.
أحدهما يعتبر الأغلب من حالته وهذا مذهب أبي حنيفة.
والثاني تلفق أيام إفاقته وعلى هذا الوجه ففي مقدار وقت جزيته وجهان.
أحدهما أنه إذا اجتمع له من أيام إفاقته حول أخذت منه الجزية.
والثاني تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا فإن استوت إفاقته وجنونه ولم يغلب أحدهما الآخر لفقت إفاقته بقدر اعتبار الأغلب لعدمه فتعين التلفيق.
الحال الثالث أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فلا جزية عليه في وقت جنونه وعليه منها بقدر ما أفاق من الحول.

.فصل: [لا جزية على فقير عاجز عن أدائها]:

ولا جزية على فقير عاجز عن أدائها هذا قول الجمهور.
وللشافعي ثلاثة أقوال هذا أحدها.
والثاني يجب عليه وعلى هذا قولان:
أحدهما أنه يخرج من بلاد الإسلام أو لا سبيل إلى إقامته في دار الإسلام بغير جزية.
والثاني تستقر في ذمته وتؤخذ منه إذا قدر عليها.
والصحيح أنها لا تجب على عاجز عنها فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وإنما فرضها عمر رضي الله عنه على الفقير المعتمل لأنه يتمكن من أدائها بالكسب وقواعد الشريعة كلها تقتضي ألا تجب على عاجز كالزكاة والدية والكفارة والخراج ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ولا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة.
فإن قيل نحن لا نكلفه بها في حال إعساره بل تستقر دينا في ذمته فمتى أيسر طولب بها لما مضى كسائر الديون قيل هذا معقول في ديون الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه إنما أوجبها على القادرين دون العاجزين.
فإن قيل الجزية أجرة عن سكنى الدار فتستقر في الذمة قيل انتفاء أحكام الإجارة عنها جميعها يدل على أنها ليست بأجرة فلا يعرف حكم من أحكام الإجارة في الجزية وقد تقدم أن عمر رضي الله عنه أجرى على السائل الذمي رزقه من بيت المال فكيف يكلف أداء الجزية وهو يرزق من بيت مال المسلمين.

.فصل من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الذمة:

ولا جزية على شيخ فان ولا زمن ولا أعمى ولا مريض لا يرجى برؤه بل قد أيس من صحته وإن كانوا موسرين وهذا مذهب أحمد وأصحابه وأبي حنيفة ومالك والشافعي في أحد أقواله لأن هؤلاء لا يقتلون ولا يقاتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والذرية.
قال الشافعي في القول الآخر تجب عليهم الجزية بناء على أنها أجرة السكنى وأنهم رجال بالغون موسرون فلا يقيمون في دار الإسلام بغير جزية وحديث معاذ يدل عليه بعمومه وحديث عمر يتناوله بعمومه أيضا فإنه أمر أن تضرب على من جرت عليه المواسي وإن الجزية إن كانت أجرة عن سكنى الدار فظاهر وإن كانت عقوبة على الكفر فكذلك أيضا فعلى التقديرين لا يقرون بغير جزية.
وأصحاب القول الأول يقولون لما لم يكن هؤلاء من أهل القتال لم يكن عليهم جزية كالنساء والصبيان وقد قال أحمد في رواية عنه من أطبق بابه على نفسه ولم يقاتل لم يقتل ولا جزية عليه.

.فصل رهبان أهل الذمة:

فأما الرهبان فإن خالطوا الناس في مساكنهم ومعايشهم فعليهم الجزية.
باتفاق المسلمين وهم أولى بها من عوامهم فإنهم رءوس الكفر وهم بمنزلة علمائهم وشمامستهم وإن انقطعوا في الصوامع والديارات لم يخالطوا الناس في معايشهم ومساكنهم فهل تجب عليهم الجزية فيه قولان للفقهاء وهما روايتان عن الإمام أحمد أشهرهما لا تجب عليه وهو قول محمد والثانية تجب عليه وهو قول أبي حنيفة إن كان معتملا.
وقال أحمد تؤخذ من الشماس والراهب وكل من أنبت وهو ظاهر قول الشافعي وعليه يدل ظاهر عموم القرآن والسنة ومن لم ير وجوبها احتج بأنه ليس من أهل القتال.
وقد أوصى الصديق رضي الله عنه بأن لا يتعرض لهم فقال في وصيته ليزيد بن أبي سفيان حين وجهه إلى الشام لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما وستمرون على أقوام في الصوامع احتبسوا أنفسهم فيها فدعهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم وستجدون أقواما فحصوا عن أوساط رءوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف.

.فصل الذمي يترهب بعد ضرب الجزية عليه:

فإن ترهب بعد ضرب الجزية عليه وترك مخالطة الناس فهل تسقط الجزية عنه بذلك فلم أر لأصحابنا فيها كلاما فيحتمل أن يقال لا تسقط عنه وهو الذي ذكره مالك لأن ترهبه ليس بعذر له في إسقاط ما وجب عليه.
قالوا ولأنه يمكن أن يكون ترهبه لتسقط الجزية عنه واحتمل أن يقال بسقوطها فإنه مانع لو قارن العقد منع الجزية فأشبه العجز والجنون والصغر.

.فصل فلاحو أهل الذمة:

وأما الفلاحون الذين لا يقاتلون والحراثون فظاهر كلام الأصحاب أن تؤخذ منهم الجزية لأنهم لم يستثنوهم مع من استثني وظاهر كلام أحمد أنه لا جزية عليهم فإنه قال من أطبق بابه على نفسه ولم يقاتل لم يقتل ولا جزية عليه.
وقال في المغني فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي ألا يقتل لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم في الحرب.
وقال الأوزاعي لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة.
وقال الشافعي يقتل إلا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشركين.
وأما قول عمر فإن أصحاب النبي لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون فأشبهوا الشيوخ والرهبان انتهى كلامه وظاهره أنه لا جزية عليهم.

.فصل تؤخذ الجزية من أهل خيبر كغيرهم من أهل الذمة:

وأهل خيبر وغيرهم من اليهود في الذمة والجزية سواء لا يعلم نزاع بين الفقهاء في ذلك.
ورأيت لشيخنا في ذلك فصلا نقلته من خطه بلفظه قال والكتاب الذي بأيدي الخيابرة الذي يدعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطل وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم كأبي العباس بن شريح والقاضي أبي يعلى والقاضي الماوردي وأبي محمد المقدسي وغيرهم وذكر الماوردي أنه إجماع وصدق.
قال هذا الحكم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ثابت بالعموم لفظا ومعنى وهو عموم منقول بالتواتر لم يخصه أحد من علماء الإسلام ولا دليل على شيء أوله الشرع فيمتنع تخصيصه بما لا تعرف صحته ولا وجد أيضا في الشريعة للمخصص فإن الواحد من المسلمين مثل أبي بردة.
ابن دينار وسالم أبي حذيفة إنما خص بحكم لقيام معنى اختص به وليس كذلك اليهود وأعقابهم بل الخيابرة قد صدر منهم محاربة الله ورسوله وفي قتال علي لهم ما يكونون به أحق بالإهانة فأما الإكرام وترك الجهاد إلى الغاية التي أمر الله بها في أهل دينهم فلا وجه له.
وأيضا فإن النبي لم يضرب جزية راتبة على من حاربه من اليهود لا بني قينقاع ولا النضير ولا قريظة ولا خيبر بل نفى بني قينقاع إلى أذرعات وأجلى النضير إلى خيبر وقتل قريظة وقاتل أهل خيبر فأقرهم فلاحين ما شاء الله وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب لكن لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر.
قلت ومقصود شيخنا أن أهل خيبر وغيرهم من اليهود كانوا في حكمه سواء فلم يأخذ الجزية من غيرهم حتى أسقطها عنهم فإن الجزية إنما نزلت فريضتها بعد فراغه من اليهود وحربهم فإنها نزلت في سورة براءة عام حجة الصديق رضي الله عنه سنة تسع وقتاله لأهل خيبر كان في السنة السابعة وكانت خيبر بعد صلح الحديبية جعلها الله سبحانه شكرانا لأهل الحديبية وصبرهم كما جعل فتح قريظة بعد الخندق شكرانا وجبرا لما حصل للمسلمين في تلك الغزوة وكما جعل النضير بعد أحد كذلك وجعل قينقاع بعد بدر وكل واقعة من وقائع رسول الله بأعداء الله اليهود كانت بعد غزوة من غزوات الكفار ولم تكن الجزية نزلت بعد فلما نزلت أخذها رسول الله من نصارى نجران وهم أول من أخذت منهم الجزية كما تبين وبعث معاذ فأخذها من يهود اليمن تزوير يهود خيبر كتابا في إسقاط الجزية عنهم.
فإن قيل فلم يأخذها من أهل خيبر بعد نزولها قيل كان قد تقدم صلحه لهم على إقرارهم في الأرض يتضمن ما يخرج منها ما شاء فوفى لهم عهدهم ولم يأخذ منهم غير ما شرط عليهم فلما أجلاهم عمر رضي الله عنه إلى الشام ظنوا أنهم يستمرون على أن يعفوا منها فزوروا كتابا بتضمن أن رسول الله أسقطها عنهم بالكلية وقد صنف الخطيب والقاضي وغيرهما في إبطال ذلك الكتاب تصانيف ذكروا فيها وجوها تدل على أن ذلك الذي بأيديهم موضوع باطل.
قال شيخنا ولما كان عام إحدى وسبع مئة أحضر جماعة من يهود دمشق عهودا ادعوا أنها قديمة وكلها بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد غشوها بما يقتضي تعظيمها وكانت قد نفقت على ولاة الأمور من مدة طويلة فاسقطت عنهم الجزية بسببها وبأيديهم تواقيع ولاة فلما وقفت عليها تبين في نفسها ما يدل على كذبها من وجوه كثيرة جدا:
منها اختلاف الخطوط اختلافا متفاقما في تأليف الحروف الذي يعلم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتب واحد وكلها نافية أنه خط علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ومنها أن فيها من اللحن الذي يخالف لغة العرب ما لا يجوز نسبة مثله إلى علي رضي الله عنه ولا غيره.
ومنها الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي في حق اليهود مثل قوله أنهم يعاملون بالإجلال والإكرام وقوله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وقوله أحسن الله بكم الجزاء وقوله وعليه أن يكرم محسنكم ويعفو عن مسيئكم وغير ذلك.
ومنها أن في الكتاب إسقاط الخراج عنهم مع كونهم في أرض الحجاز والنبي لم يضع خراجا قط وأرض الحجاز لا خراج فيها بحال والخراج أمر يجب على المسلمين فكيف يسقط عن أهل الذمة.
ومنها أن في بعضها إسقاط الكلف والسخر عنهم وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول وخلفاؤه.
وفي بعضها أنه شهد عنده عبدالله بن سلام وكعب بن مالك وغيرهما من أحبار اليهود وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود فاعتقدوا أنه كعب بن مالك وذلك لم يكن من الصحابة وإنما أسلم على عهد عمر رضي الله عنه.
ومنها أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي.
ومنها أن فيه من الإطالة والحشو وما لا يشبه عهود النبي.
وفيها وجوه أخر متعددة مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحد من العلماء المتقدمين قبل ابن شريح ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحد من ولاة الأمور فعملوا بها ومثل ذلك مما يتعين شهرته ونقله.
قلت ومنها أن هذا لم يروه أحد من مصنفي كتب السير والتاريخ ولا رواه أحد من أهل الحديث ولا غيرهم البتة وإنما يعرف من جهة اليهود ومنهم بدأ وإليهم يعود.